الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم كان لسائل أن يسال: ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى؟ فلهذا قال: {لكم فيها منافع} يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله: {لكم فيها خير} ولهذا أطلق ذلك وقيد هذه بقوله: {إلى أجل مسمى} وهو أوان النحر. ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب مه وهو الحرم كما مر في قوله: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] ومثله قوله: بلغنا البلد إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده. قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها.روى أبو هريرة «أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى الله عليه وسلم: اركبها فقال: يا رسول الله إنها هدي. فقال: اركبها ويلك» وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا» وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن ابي حنيفة أنه لا يجوز الإنتفاع بها لأنه لا يجوز إجازتها ولو كان مالكًا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هديا، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك. أجاب الأولون بأن الضمير في قوله: {لكم فيها منافع} عائد إلى الشعائر، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه. قال في الكشاف: ثم للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطًا في النفع محلها منتهية إلى البيت. ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال: {ولكل أمة جعلنا منسكًا} موضعًا أو وقتًا يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدرًا بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلًا {فإلهكم إله واحد} لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا سامه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلًا {فله أسلموا} أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصًا لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض، وعن عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي: هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله: {والصابرين على ما أصابهم} أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء: إنه لا يجب الصبر عليه ولَكِن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال.ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله: {ومما رزقناهم} عطف على {المقيمي الصلاة} من حيث المعنى كأنه قيل: والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة اخرى وخص منها العظام الجسام بقوله: {والبدن جعلناها} هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكمًا. قال أبو حنيفة ومحمد: لو قال: على بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هديا أنه يجب ذبحه بمكة، وفيما إذا أنذر جزورًا أنه يذبحه حيث شاء. وانتصب قوله و{البدن} بفعل يفسره ما بعده. ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال: سمعت ربي يقول: {لكم فيها خير} أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا. وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلًا منهما على خير الدنيا والآخرة، والأنسب ما فسرناه حذرًا من التكرار ما أمكن. ومعنى {صواف} قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، ولعل السر فيه تكثير سوادها للناظرين وتقوية قلوب المحتاجين. {فإذا وجبت جنوبها} اي سقطت على الأرض من وجبت الحائط وجبة سقطت، ووجبت الشمس وجبة غربت. والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففًا. وقيل: بالعكس فهمًا من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل، والمعتر رضي بعرّه اي عيبه فلا يسال أو يسأل. ثم منَّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعونًا في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرمًا وأقل قوة لولا أنه سبحانه سخرها. يورى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال: {لن ينال الله} أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق. {ولَكِن يناله التقوى منكم} بأن يكون القربان حلالًا روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر. ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في البقرة في آية الصيام. قالت المعتزلة: لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون التقوى فعلًا له وإلا كان بمنزلة الأجسام.وأيضًا إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضًا إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متقٍ {وبشر المحسنين} إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تبعد الله كأنك تراه، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسج الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال: {إن الله يدفع} ومن قرأ {يدافع} فمعناه يبالغ في الدفع {عن الذين آمنوا} فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله بقوله: {إن الله لايحب كل خوان كفور} أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل: اقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا؟ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون من المشركين أذى شديدًا وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل {أذن} وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله: {للذين يقاتلون} إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال {بأنهم ظلموا} أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله: {إن الله يدافع} ثم في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله: {الذين أخرجوا من ديارهم} ومحل {أن يقولوا} جر على الإبدال من {حق} اي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} [المائدة: 59] {ولولا دفع الله الناس} قد مر في أواخر البقرة.وللمفسرين في عبارات قال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس: يدفع بالمحسن عن المسيء وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية» وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها اسماء المساجد، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري: الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعة، إذا دققت وحدد راسها. وصومعة النصارى فوعلة من هذا لأنها دقيقة الرأس، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصولات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظرًا إلى قرائنها كقوله: مقلدًا سيفًا ورمحًا. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة، فعن ابي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله: {يذكر فيها اسم الله كثيرًا} تشريف لها وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير إليها فقط. وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود. قال الزجاج: وهي بالعبرانية صلوتا. وقيل: الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولَكِن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل. وقال صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون» وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة، فهدم في زمن موسى الَكِنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا المتعبدات باسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله: {إن الله لقوي عزيز} ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلًا. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره دايعة الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. {الذين إن مكناهم} وقيل: هو بدل من قوله: {من ينصره} وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا.وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل: إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين فتمكينهم هو إبقاءهم إلى أوان التكليف، وقد يشمل الأطفال أيضًا إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله: {ولله عاقبة الأمور} أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة. اهـ.
|